السبت، 21 سبتمبر 2013

قليل من الفلسفة..(ا)


سألني أحدهم عن فلسفتي في الحياة...!
أوه، فلسفتي في الحياة..؟!
أود طبعا ان أكون شخصا مهما لدرجة أن تكون لي
 فلسفة ما في الحياة، لكنني للأسف لست كذلك.
خاب ظنه فيّ..ولا الومه.
فمنذ فترة من الوقت تصادف سفري مع واحد
من اشهر شعراء مصر المعاصرين،
ممن طبقت دواوينه الخافقين..
تعارفنا وبدا انه يعرف عائلتي جيدا،
أهداني آخر دواوينه..فوجدتها فرصة متميزة لاقتناص
ما لديه من تجارب..
و عنّ لي أن أسأله عن خبرته التي اكتسبها طوال السبعين عاما التي عاشها..
وبشغف سألته عن ماهية الدروس التي علمتها اياه الحياة.
كنت أنتظر منه أن يعتدل في جلسته ثم يلقي علي اجابة مطولة تمتليء بعبارات فلسفية مفخمة من تلك التي يجيدها كل من يوجه اليه سؤال كهذا.
لكنه بداهادئا وهو يجيب
-بمنتهي البساطة-: تعلمت أنني لم اتعلم بعد شيئا.!
هي ليست إجابة ذكية جدا كما ترون..
ولقد تمنيت وقتها ان لو هشمت رأسه لولا ان هذا كان سيسبب بعض الازعاج للركاب حتما.
ومن بعدها ابتلعت لساني ولم أسأله عن شيء طوال الرحله.
سقط من نظري كثيرا، كما سقطت انا من نظر صديقنا الاول بلا شك.
لكن هذا كان درسا -مهما كان قاسيا- لابد وأن نتعلمه..
من الصعب ان تبني فلسفة صحيحة ودائمة في الحياة قط.!
مخطيء من يظن ان الحياة يمكن لها ان تستمر علي وتيرة واحدة ابدا..بما يسمح لك أن تصنع قالبا مصمتا علي مقاسها.
ربما هذه بديهة يعلمها الجميع نظريا،
لكنها بديهة واقعية بشكل لا يصدق..
كل شيء في تغييرمستمر...الاقدار..المشاعر..العادات والتقاليد..وجهة نظرنا لأمور..وحتي قناعاتنا الذاتية.
ولا يتصورنّ أحد أن بمكانه وضع جدول صارم لحياته بحيث لا يكون فيها تخبط او ارتجال..
لقد اكتشفت بعد كل هذه السنين ان هذا محال.
كل شيء قابل للتبدل في لحظه..
لا تراهن علي الثبات ابدا..

وغاية ما يمكن لك ان تفعله هو ان تضع الخطوط العريضة في حياتك..
اما التفاصيل الصغيره..والخطوط الاقل سمكا..فهذا شيء في يد الزمن وحده.
ونصيحتي لك هي الا تنتظر من الزمن الشيء الكثير..
ولا تراهن كذلك علي الثوابت في مقابل متغيرات العاطفه.
اسأل فتاة حالمة عن الحب ستخبرك بأنه أفضل شيء في الوجود،
ثم انتظر فترة حتي تبدأ مرحلة تمزيق الصور وتحطيم التذكارات وأعد سؤالها، ستخبرك ان الحب هو اكبر اكذوبة في تاريخ البشريه، وان الرجال ماهم الا مذئوبون حثالة يتسلون بقتل ضحاياهم من الآنسات الرقيقات.
امهاتنا الصابرات يرون الحياة جميلة طالما نحن فيها، ومهما تشكوا اليهن من قسوتها وغلاظتها فلن تحصل سوي علي ابتسامة بريئة مشجعة، هاته الامهات أنفسهنّ اذا فقدن احد ابنائهن فمن المستحيل ان تحصل منهن علي رأي ايجابي في الحياة بعدُ.
ونحن كمخلوقات بشرية جميعا نظل نكره الحياة ونناصبها العداء حتي يتحقق لنا ما كنا نصبوا اليه فيها من أحلام،
وحينها نتصافح وإياها، ونبدوا كعاشقين يسيران في نزهة تحت قمر..
وهي الحالة التي يصفها محمود درويش بدقة حين يقول:
(ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا).
كوكبنا علي شكل كرة شبه بيضاوية تدور..
ولنا نحن ساكنوا هذا الكوكب نصيبا من هذاالدوران.
فأنت تري ان كل شيء من حولك يدور..يدور الي حد يدفعك لان تدور معه انت الاخر غير عالم الي اين سيستقر بك المقام.
أعد بنفسك التقليب في دفاترك القديمه ستجد أشخاصا كُثر كنت تراهم أقرب الناس اليك..فكر أين هم الان..وكم أصبحتما أكثر بُعدا مما تخيلت يوما.
فكر في أولئك القريبين منك الان..كم واحد منهم كنت تتصور انك ستصفوا له وتفتح له قلبك..؟
فكر في قناعاتك الذاتية منذ خمسة أو عشرة أعوام وقارنها بما تعتقده الان.
هل تبينت هذا..؟
اننا نتغير تدريجيا..بعضنا يدري هذا ويرصد خطواته بدقه..والبعض الاخر قد يلتهي عن ذلك بأمور الحياة وأحداثها..
الي ان يمر بتلك الحالة التي تقتضي منه اختيارا حقيقيا لمعتقداته وآراءه، وهي الحالة التي تصف بدقة من نحن..
من نحن علي الحقيقة..
من نحن بعيدا عن الهالة التي نرسمها لأنفسنا، أو يرسمها الآخرون لنا في مخيلاتهم..
ولحظة الاختيار الحر هذه هي المقياس الوحيد الذي ينبيء عن مكانك الان..اين كنت..وكيف صرت.
هل تغيرت كثيرا عن الماضي..؟
هل هو تغير لأفضل..؟
أم للأسوأ،
ولو كان الأمر كذلك فما هو السبيل لاتضاح الرؤية..
والرجوع..؟
ان إعادة ترتيب موضع خطواتنا في هذه الحياة يجب ان يكون امرا محوريا يحتل الصدارة في الحياة بالنسبة لنا..
ان اللص سييء مادام لم يدرك بعد انه لص، فاذا ادرك ابعاد ذلك ووقف مجردا امام ذاته، انتقل من خانة اللصوصية الي خانة المعذَّب..الي خانة الفيلسوف المفكر..!
وهذا التفكير نتيجته هي محصلة ما بداخل هذا اللص..
وما بداخله قد يجعلنا ندير وجوهنا بلا مبالاة وكأننا كنا نتوقع الاختيار، او يجعل عيوننا تمتلأ دهشة واكبارا.
وهذا يعيدنا لفكرة الخطوط العريضة التي يجب ان نضعها علي صفحة الحياة..
في خضم هذا (الخلاط) الفكري والثقافي والاجتماعي الذي نعيش بداخله..كيف لنا ان نمسك بين ايدينا زمام الثابت والمتحول..؟
كيف ونحن أساسا عرضة لهذا التحول بين لحظة وأخري..؟
-في كتابه (المحاسن والأضداد) يضعنا الجاحظ أمام معضلة حقيقية كمثال علي التحول العقلي الشنيع..
حيث انه يختار الحديث عن شيء ما..فيشرع في تحسينه وتزيينه لك، ويأخذ في حديث طويل معددا محاسنه وفضائله ومميزاته..الخ.
فينعقد في ذهنك أن هذا الشيء هو أفضل وأجمل ما في الكون.
ثم ينتقل للنقيض فيتحدث عن الشيء ذاته مبديا لك الجانب السيء فيه..ولا يتركك حتي تقتنع تماما أن هذا الشيء هو أسوأ ما في الكون.!
حيرة التناقض بين المحاسن والأضداد.
هي جزء مصغر من حيرة التناقض العظمي التي تغلف الحياة كلها.
-في دير القديسة مريم الشكور في ميلانو الايطاليه وتحديدا في العام 1495عهد رئيس الدير الي الفنان العبقري ليوناردوا دافنشي برسم لوحة العشاء الأخير..
وهي اللوحة الاشهر في الفن الكنسي علي الاطلاق، والتي فيها يجتمع المسيح -عليه السلام- كمثال للطهر والتسامي، ويهوذا الإسخريوطي كمثال علي اللؤم والخسة والوضعة.
ولأن دافنشي كان محترفا فلقد بحث عن وجه طيب وخلوق يشع من جوانبه البراءه ليكون صورة المسيح.
ثم بعدما انتهي منه ، ومن رسم حواريه..

بدأ رحلة مضنية للبحث عن وجه عبوس ولئيم ليمثل يهوذا..
وبعد رحلة بحث طالت الي سنين عديده عثر ليوناردو اخيرا علي بُغيته..
أحضره للدير وقبل شروعه في الرسم اكتشف الحقيقة المذهلة..
هذا الشخص هو بنفسه الذي رسم تقاسيم وجهه منذ سنون عديدة ليمثل المسيح..!
لكن الزمن غيره تماما للنقيض..
غيره من شبيه للمسيح الأطهر، لمماثل ليهوذا المدنس.!
وهذا ما يفعله الزمن فينا..تماما.
إنه يغيرنا الي حد أننا في لحظة ما نكون غريبين حتي عن أنفسنا.
ان مجريات الزمن عجيبة جدا..
عجيبة الي حد يكاد يصيبك بالجنون.
وأن تكون لك فلسفتك في الحياة وحده هذا الذي قد يكفل النجاة من براثن هذا الجنون.
وان تضع قدميك علي نقطة الثبات..قد يكون الشيء الوحيد الذي ينجيك من خطر الدوران في فلك المتغير...
أن أهمية تكوين نظرية فلسفية خاصة بك هي ما يجعلك سيد اللعبة، وهو أيضا ما يسمح لك باكتساب نقطة تفوق علي الجمع المحيط بك.
وهذا يقتضي تحديد نقاط ورسم خطوط عريضة..
لكن في ظل ما سبق الحديث عنه كيف لنا أن نضع أيدينا علي مفتاح اللغز؟؟
وكيف لنا أن نصلَ...
كيف؟

  وللحديــــث بقيــه..

نورالدين


هناك تعليقان (2):

  1. مقال جميل كالعاده..
    وانا فعلا كنت بافكر في حاجه زي كدا من فتره،
    وزي اي حد فكرت اني اقيم الناس دا كويس ودا سيء..
    بس التصنيفات دي مش بتدوم فعلا يا محمود.
    مواقف بعض الناس معايا بتخليني اصاب باحباط، ويا اما بعيد تصنيفهم من جديد أو أمل وادايق
    وابطل تفكير واسيب الحياة تمشي زي ماهي ماشيه وخلاص.
    منتظر الجزء التاني من المقال بفارغ الصبر...لعل وعسي..^___^

    ردحذف
    الردود
    1. ستنتظر طويلا إذن أيها الصديق لأني لن أكتبه الآن..
      ليس قبل أن أكون فلسفة ما في الحياة..
      ربما يحدث هذا غدا..وربما بعد 100 عام.^ _^

      حذف


ما رأيك فيما قرأت...؟؟؟؟؟...(((أضف تعليق)))..