الثلاثاء، 11 فبراير 2014

هذياان روح متعبه./خاطرة


ببطء أنزع نفسي عن نفسي..أخلعني كما تخلع الغيمة عن نفسها شعاعً كوني..
كانت هذه لعبتي المفضلة في الصغر..أنام علي ظهري..أتخيلني اثنين..واحدً يبقي نائما..والاخر يرتفع ببطء وهو ينظر في عيني..
كسحابة دخان هلامية يرتفع شيئا فشيئا ليعيد التشكل في سماء الحجرة..
يلصق ظهره بالسقف..ويتأمل وجهي..
هو يشبهني جدا..انه انا لولا فارق جوهري..هو لا يُحَدُّ بشيء..
قلبه خفيف وروحه اخف..غير مثقل بما يقيدني..وبما يمنعني عن أن أرتفع للأعلي مثله.
حين كنت صغيرا كنت انفصل عن نفسي وانا ابكي غالبا..حالة الحزن كانت تمنحني بعض شفافية الدموع المتساقطة من عين ملاك..
وانا الان مريض..مريض الي درجة اعجز معها حتي علي ان اتناول كوب الماء علي المنضدة المجاورة..بأصابع مرتعشة أحاول..وحين أوقن بعجزي أقنع نفسي اني لم أعد ظمآنا!..نوعا من التسلية عن العجز..ومن غض البصر عن رؤية الماء بداخل الكوب برتجف -بين أصابعي- قلقا وتوترا..
ان حالات الضعف هي ما يسمح لنا بالنفاذ بداخل كينونتنا اكثر..
حين تكون معافي تكن كل خلاياك متماسكة..تكن اشبه بكتلة واحدة تسير في اتجاه واحد..
اما لحظات المرض فانها تسمح لهشاشتنا بأن تطفو علي السطح..
تسمح لضعفنا بأن يتكاثر كمزرعة ريم علي سطح ماء..
ما الذي يجعلك تعتقد انك ستنجو من هذا..؟
أنك سَتَرُدُ تحية الصباح حين يلقيها عليك بينما يكون مشغولا بإيقاظ العصافير،
وبينما يزيل عن اجنحة الحمائم ما علق بها من جراحات الندي..؟
ها انت ذا تتعلق -كعهدي بك دائما- بطرف خيط واهِ لا تدري أبدا ان ينتهي طرفه الآخر..
لكنك احمق اذ تكابر..
ان من يصرّ علي المبيت وحيدا مفردا في طابق كامل وهو في هشاشة طفل رضيع،
ولا يقو حتي علي تلبية نداء شفتيه بارتشاف بعض قطيرات الماء لهو مكابر وأحمق كبير..
الأمل..
لا تفسير لديك سواه..ذلك الحافز الغامض في أعماقك أنك ستنجو..أن كل ذلك سيمر..
الأمل بأنك ستعيش ليوم آخر كي تتسلم بنفسك بريد الغد..كي تصافح بائع اللبن العجوز كما اعتدت..كي تنظر من نافذتك فتشاهد الصغار وهم يتبارون حول من يجعل الطائرة الورقية تعلو أكثر..فأكثر..
ومع الطائرة الورقية تنادي عليك الجهات..، في هذا الظلام..والدوار..والصداع العنيف..انت لا تتبين وجهة ما..لكنك تثق بحدسك..وحدسك يقول ان الاعلي حيث يوجد طيفك العائم..هذا مفيد لتضع قدميك علي أول طريق الانتباه..
لربما أفادك إذن وجوده بالاعلي هناك..
أن من بالأعلي دائما يمتلك ميزة أنه يري أكثر..يفهم أكثر..
أشياء كثيرة علمتها فيما بعد عن أناس طعنوني في الظهر كان يبتسمون لي طيلة الوقت..
لثوان تمنيت ان لو كنت املك ميزة العلوّ..لربما لمحت من هناك
ابتسامة الذئب..وفهمت..
فلتستغل علوّ طيفك إذن..واسأله..
أقراص العلاج بعيدة عن يداك المنقبضة المرتعشة..ربما لو طلبت مساعدة ما..
لكن انت تعلم انك لن تفعل..
إنني أشتهي موتا يأتني قبل أن أستجدي أي أحد..
أريد موتا نظيفا لا ينكشف مني علي لحظات ضعف وانهيار أكثر..
تدير حوارا -بينك وبين نفسك- والطيف هو الشاهد:
-أنت تزورني كثيرا كعاشق..
-في عينيك سؤال أهم..فلتزرعه في الغيب الأبدي ولتدعه ينمو حتي آتيك بثماره..
-ليس في عيني شيء..فقط محجرين يطبقان علي دموع ،وثمة نقطة سوداء في فراغ ابيض.
-ربما في القلب..؟
-لم يعد في القلب متسع ليسأل أكثر.
-أنت تبحث عن خيار أخير لتتبعه..
-أنا أبحث عما هو أكثر..
(الأمل)..من جديد يقاطعك الحدس..
الأمل أنك ستحيا لليلة أخري كي تتم حديثك مع الطيف..
أنك ستكون شاهدا علي مولد قمر جديد غدا..فلربما حصلت علي اجابة ما..
من جديد يعلو صوت الوجع..فيطغي عليه صوت الظمأ..ارتعاشات اليدين..والقلب..والأجفان..
أنت تهذي..وفي الهذيان حياة ما..
أعرف واحدا عاش هذا الموقف قبلا..كان مثلي غارقا في الصخب..
لكن يدا مرمرية امتدت هناك وانتشلته..ذات اليد الان..واليوم بالذات هي من أغرقته.
أنت تهذي..
سمعت مرة صيادا أنقذ سمكة من حوت ضخم لكنها خذلته وألقت بنفسها لأول شبكة صيد عابرة ينشد:
كن حجرا لتنسي..
كن يبابا واحذر نضحة الغيم وانسْ
انك عائش ، ستموت
دهرا لو نسيت.!
أنت تهذي..
لكن شفتاك بعد لم تتيبسا..
ببطء تهتزان
كآخر وتر مشدود علي سطح جيتار عتيق..لتغني مع أم تنيم صغارها:
هذا المدي الموفور لو تكلما
هذا الندي المسحور لو ترنما
هذا السحاب الغر
هذا البلبل الشادي..والصنوبر..واللايالكْ..
لكنك قبل الصغار تنام فلا تُكمل الغناء..ولا تعرف ابدا ما المنتهي..!
صوت كروان ما بعد الثانية يدقّ ناقوس الذكريات فتصحو من إغفائتك القصيرة فاقدا القدرة علي الحزن..أو الحنين.
طيفك..نصفك الثاني لم يزل هناك يزرح سماء الغرفة جيئة وذهابا..
هاتان العينان تعرفهما أنت جيدا..لوهلة تخلط بينهما وبين عينين أخرتين..
لكنّ من تعني كانتا عينان من زبرجد..من لؤلؤ نضيد..
لا وجه للخلط اذن بين قنّ دجاج وقبة قصر..
بين عينين كانتا تنتشلانك من اوجاع الدنيا كلها، وبين عينان هما صورة لتلك الاوجاع ذاتها.
أنت مريض جدا..والحنين والمرض سفيرا الذاكرة..
الذاكرة..؟
تعيد الكلمة فيما يشبه الاستغراب..!
ان الذاكرة هي ختم الوجع الباقي الذي نحمله ما حيينا..وشم العبودية لماضينا الذي يقيدنا اينما ذهبنا..لعنة المنقضي التي ترفض ان تترك الآتي وشأنه..
ذاكرتنا هي سُمّنا الذاتي الذي نحمله بداخلنا..سُمُّنا الذي يتسرب إلي أوردتنا تحت ستار الحنين..
لكنك هذه المرة لا تهذي...
هذا غريب..لكنه واقعي كدموع المجدلية..
تفكر في شيء ما ينسيك الوجع المحيط..تتخبط في متاهات الفكر كشاعر يبحث عن فكرة لقصيدة جديدة..كأديب يبحث عما يصلح ان يكتب في افتتاحية لصحيفة ما..
تحاول أن تحاول شيئا قبل أن يعاودك الهذيان..
لكن -وحقا- ليس الهذيان بهذا السوء..
أنت ظمآن للماء..للبرء..للشفاء..
لكن ظمؤك لما لا تدري كنهه يؤلمك أكثر..!
تحاول ان تصغي لصوت الوجع عساه يعطيك فكرة ما..لكن الوجع اخرس..
وجعك من النوع الصامت الذي يكتفي بأن يعمل في جسدك
عمل المبضع..بقسوة..وألم..لكن دون أن بنبس حرفا..
وحدهم من أحبوا ولم يفصحوا عن حبهم
من قتلوا دون أن يفهموا لم قتلوا
من رحلوا دون همسة وداع أخيرة
من عادوا ولم يجدوا في انتظارهم أحد..
يفهمون كُنه هذا الوجع الاخرس..الصامت..الذي لا يثرثر كثيرا.
ترفع طرف عينك الواهن الي الاعلي حيث انت كلك مفصولا عن أنت..
لكنه يرد عليك بأنه لا يمتلك فكرة ما..انه ليس ساعي بريد..فقط هو مجرد انت مجردا عن نفسك..!
تحاول البحث عن شيء ما..لكن دون جدوي..
أنت تكابر..
ربما لهذا يغدوا للحب معني كبيرا..
إنه يُنَحِّي مكابرتُنا جانبا..حين يُحبّ أحدنا لا يخجلُ من ضعفه..لا يتواري من هشاشته..بينما المفرد منّا بحاجة الي الكثير من الادعاء ليثبت أنه غير محتاج لاحد..
انه لا يبحث عن نصف آخر يكمله..
لهذا يكابر حتي آخر نبضة عرق فيه..لكنها مكابرة من النوع النازف..
مكابرة تنتهي بالموت..كموجة لطمتها الصخور..فتلاشت.
عدت للهذيان..!
-هل ستنجو..؟
-ربما تفعل الروح..
-والقلب..؟
-سيظل غاف ينتظر..!
حين كنت صغيرا قلت لشخص ما إنني احبه..
أفكر لو لم أفعل..
حين سقطت من ارتفاع ثلاثة طوابق غير منتبه لزلة القدم الاخيرة..
أفكر لو انتبهت قليلا..
حين اصطدمت بسيارة نقل مسرعة عند تقاطع طريقين..
أفكر لو لم أكن هناك..
حين ابتسمت في وجه من يكرهني..
أفكر لو كنت أذكي قليلا..
حين عبست في وجه من أحبني..
أفكر لو تريثت قليلا..
لربما كنتُ الان بعيدا أراقب موتي النائي بلا خوف..بلا ندم..بلا وجل..
وبلا تأنيب ضمير..
لكن هل كان لي من حيلة في ألا أكون هنا الان..؟،
هل كان يمكن لو اقتصدت في النزف أو البكاء أو الحزن او الفرح ألا أكون حيث انا موجود الان..علي هامش الموت..وعلي هامش الحياة..؟
إنني كصدفة بحر..أفرغوها من لؤلؤتها وألقوها بإهمال علي أقرب شاطيء..
لقد أفرغني الوجع من قدرتي علي التركيز..فلا أستطيع إجابة ما.
حرارتي شارفت علي الاربعين..
هل هذا الترمومتر يقيس درجة حرارة الجسم ام القلب..؟
انني أحس برجفة في قلبي من شدة البرد..انه خائف..أحس بهذا جيدا..
هذا القلب لم يفعل في حياته شيئا سوي احتراف الخوف..
حين أحبّ..وحين كره..حين آمن..وحين تنكب الطريق..
حين صادق..ووثق..وحين تخلي..وانخدع..
ذلك التناقض العجيب بين خارجي الملتهب، وداخلي المرتجف
يذكرني بكم انا ضعيف..وكم أنا بحاجة لمن يسند وجعي ويربت علي خدي
بأنامل مبللة بعض الحب..والماء. 
لكن..لأُسدي لنفسي هذه الخدمة الصغيرة..
هذه الروح المتعبة التي صاحبتني ربع قرن جديرة بأن أسديها بعض العون..
 وبأن أقدم لها هذا الطلب الأخير.
إنني أهذي..
لكنني لازلت مصراً علي أن في الهذيان حياة ما..
فحتي الوجع..والالم..لم يثنياني عن الكلام..
حتي ولو كان كلاما مهلهل التراكيب غير متناسق وغير مضمون المعني..
الذاكرة والحنين يأخذان بيدا بعضهما ليسيرا معا علي طريق يؤدي الي أقرب بحر..
يدي المرتجفة لامست أخيرا كوب الماء..وأصابع اليد الأخري انقبضت علي ألاقراص المعالجة..
شفتاي المرتعشتان تعيدان لحن قديم عن حبيب ما قد رحل..ربما سيعود.
عن طفل كبر..
عن ربيع حلّ..
عن فراشة تتقافز في أرجاء حديقة..
طيفي من السقف يهبط شيئا فشيئا..أفسح له بجانبي..لكنه يعيد التلاحم بي..
جسدي يتوقف عن الارتجاف أخيرا..حرارتي تهبط قليلا..
أحس براحة نسبية..وبأنني أشاهد طيفا لوجهِ ما يبتسم..
شفتاي متعبتان..وأعرف أن هذا الوجه غير حقيقي..
لكن ركن فمي -لوهلة- يبتسم
..

*  *  *
-هل ستنجو..؟
-ربما يفعل الجسدُ..
-والقلب..؟
-سيظلُ غافِ ينتظرْ..


محمود

من قلب الوجع الموسمي
11/2/2014

هناك 8 تعليقات:

  1. لإن كان هذا هذيانا فما هو كلام العقلاء إذن..؟
    دمت ودام لك الفن والتفرد والابداع.

    ردحذف
    الردود
    1. أدام الله علي سيادتك كل خير،
      وشكرا للمجاملة الرقيقة.

      حذف
  2. من قلب الحلم ..و الوجع..و الخيال..لكنه حقيقى..أعلم ذلك تماما..و أتمنى أن يرحل موسم الوجع ..بلا رجعة..و لكنى أشكره كثيرا..أن أخرج منك هذا اﻹبداع..
    ليلى..

    ردحذف
  3. شكرا جزيلا لرأي سيادتك أيتها الأديبة العظيمة الكريمة،
    جزاكم الله خيرا.

    ردحذف

  4. "كن حجرا لتنسي..
    كن يبابا واحذر نضحة الغيم وانسْ
    انك عائش ، ستموت
    دهرا لو نسيت.!
    أنت تهذي..
    لكن شفتاك بعد لم تتيبسا.."ـ


    سلامٌ على قلبك يا أديبنا،، وسلامٌ على قلمٍ يستطيعُ أن يأسر قارئه في محراب حروفه وهو متوجسٌ من اقتراب النهاية

    سلمت يمينك،، ودمت بحفظ الرحمن

    ردحذف
    الردود
    1. لا توجد كلمات شكر كفاية تعبر عن خالص امتناني لمجاملاتك الرقيقة ايها الشاعر العظيم،
      فشكر الله لكم طيب حديثكم.
      وجزاكم الله خيرا.

      حذف
  5. مدونه بجد رائعه جدااااااااا اتعلمت كتير منها شكرا لكم ونسالكم المزيد

    ردحذف


ما رأيك فيما قرأت...؟؟؟؟؟...(((أضف تعليق)))..