السبت، 22 فبراير 2014

الاخرون دائما..!/مقال


من قرأ أدبيات نهاية فترة الستينيات من القرن الماضي يمكنه -بلا كثير جهد- ان يدرك حجم الانتكاسة التي مُني بها الجميع حينذاك..
يقولون انك لو كنت حدّقت النظر بداخل اي عين وقتها لوجدت الدمع يترقرق فيها،
ولو استرقت السمع لاي صوت لتلمحت بحّة وخنقة شديدة تغزوه.
لوهلة توقف حينها كل شيء في قلوب الناس..الحب..والكره..الامل..والالم..
كان الكل غير مصدق كيف أن حُلما بحجم الدنيا كلها يمكن ان ينكسر بتلك السهولة..!
وبعدما ذهبت سكرة الصدمة عن الجميع، بدأ البعض منهم يصبّ لومه الشديد علي القيادات العسكرية والسياسية الحاكمة وقتها،
بينما اختارات الغالبية العظمي ان ترتحل الي ما وراء الغيم..
وأن تعطي ذهنها اجازة طويلة عن متابعة الواقع وما يستجد فيه من متغيرات،
وأن تقدم استقالتها للوطن -بكل ما فيه ومن فيه-
فمرّ المجتمع -وقتذاك- بأكبر حالة هجرة شعورية تمثلها يوما.
ويُخيّل الي أننا -معاشر الشباب- نمر بالموقف ذاته هذه الايام..
فبعد انكسار حلم الثورة الوردي بسبب برجماتية الاخوان وانتهازيتهم، وسفالة ووضاعة المنتسبين -زورا- الي السلف، وبعدما فرضه العسكر من طغيان وتجبر علي المشهد سواء في فترة حكمه الاولي او الثانية، وبعدما مارست الاحزاب والحركات والطوائف السياسية -الا فيما ندر- دورها في العمالة علي الوجه الذي ينبغي..
وجد الشباب -غير المنتمي- نفسه في مواجهة نفسه،
بلا عزاء.. وبلا شيء يتستر وراءه..
كل مكاسبنا -الصغيرة- من ثورة يناير العظيمة قد ذهبت أدراج الريح..
ولطالما اعتقدتُ أن الربح الاكبر الذي خرجنا به من (يناير) هو إعادة ثقة الشباب بأنفسهم، ومعرفة حدود قدراتهم الجبارة التي لا يمكن أن يقف أمامها شيء..
لكن هذه الموجة الجارفة من الحماس لم تزل تتلاشي شيئا فشيئا، حتي لم يبق منها سوي رذاذ خفيف يعلو انين وجعه كلما نضحته في وجهنا ريح الشمال.
اننا -وبعدما وأدت ثورة يناير العظيمة- نخسر علي جميع المستويات..العقدية..
والسياسية..والاجتماعية..والانسانية..والثقافية..وفي كل ميدان.
حالة من الانكسار التام التي تشابه حالة الستينيات أو ربما أسوأ..فحينها كان العدو واضحا محدود المعالم، اما اليوم فكل شيء مختلط.
لقد ضاع مع ضياع هذه الثورة حلمنا في وطن نعيش فيه ويعيش فينا..وطن نحمله في القلب ونراه كل صباح مرفوع الرأس موفور الجبين، لا موضع فيه لظلم او جور.
وطن ينتصف فيه المظلوم من الظالم، والضعيف من القوي، والفقير من الغني.
لوهلة خيل الينا اننا أخيراً سنحصلُ علي مستوي تعليمي وصحي ومعيشي وأنساني راقٍ..
وأننا سنشهد بأنفسنا مصارع الطغاة..واندحار دولتهم القمعية ونظامهم الجائر..
واننا -حين ننجب اطفالا- فسيكون لنا الكثير من القصص التي نرويها عن جهدنا وجهادنا كي نورّثهم وطنا جديرا بهم وبما سوف يحلمون.
لكن تلك الخيالات الآن اضحت بالنسبة لأذهننا شيئا غريبا وعجيبا..
اساطيرا من الحلم سوف نضمها الي حكايا الغيلان وعنقاءات مغرب.
إننا -وبلا شك- أسوأ الأجيال حظاً..
مَنْ قبلَنا غارقون في التعصب والجهل من الوريد للوريد،
ومَنْ بعدنا متشبعون بالتفاهة والهراء من العظم للعظم،
وفي العراء نقف نحن..مجردون من كل شييء..وأي شييء.!
فلا الواقع يمد لنا اليد متقبلا، ولا الماضي يكف عن تقريعنا وجدلنا بسياط التذكار،
ولا المستقبل يتوقف -ولو للحظات- عن إثارة فزعنا وترويعنا
وإيقاظ أبشع المخاوف الكامنة فينا.
اننا جيل كتب عليه أن يشاهد بنفسه كتب التاريخ حيّة بين يديه دون ان يدري ما الذي يتوجب عليه فعله..!
كل التواريخ الماضية والاحداث المعلّبة في كتب التراث تتناثر بين أيدينا يوميا غير عالمين كي نحسن التصرف..

وفي كل اطراقة غيم يترآي لنواظرنا ما خلّفناه ورائنا من دماء وجحيم وصراخ..
في اليمن..وفي الشام..وفي جزيرة العرب..
وفي أراضي البلوش..وجبال القوقاز..
في أفريقيا وشبه القارة الهندية..وفي كل مكان
علي امتداد الخريطة من أقصاها إلي أقصاها.
وخلف هذا الجدار من القسوة والظلم نقف مكبلين مقيدين يغلّنا الحديد..والهوان.

 ونبقي الدهرَ داخل غرفنا وامام شاشات اجهزتنا نلوك الصمت..والعجز،
وندير اعيننا فيما حولنا بحثا عن ميدان واحد كي ننتصر فيه علي عجزنا..وضعفنا..وهواننا..
لكنْ بصرنا يرتد -في كل مرة- وهو حسير.!
انهم -جميعا- يُلْقُونَ علي عاتقنا مهمة انقاذ السفينه من الغرق..
لكن مالا يعلمونه هو ان السفينة قد غرقت فعلا!،
المقتدرون سرقوا منها قوارب النجاة وفروا،
وبقينا نحن نحاول جاهدين أن نعثر علي قطعة خشب طافية نجد فوقها
بعض الامن والسكون -ولو الي حين-.
قطعة الخشب هذه قد تكون في حسّ بعضنا أموالا مكدّسة..
وفي حسّ البعض الآخر جاهاً ونفوذاً وسطوة..
بينما هي عند القسم الثالث حبا..
فنحن -علي الارجح- نبحث عن الحب لنجد فيه ذاتيتنا..و نحاول جاهدين أن نعوّض هزائمنا الكبيرة بحب كبير..ونحاول أكثر أن نغض الطرف عن تيْهنا المبالغ فيه بقِبْلة تترصدها خطانا.
لعل هذا هو التفسير الوحيد لحالة الشجن المبالغ فيها التي تجتاح شباب وفتيايات هذه الايام،
فهي حالة (سيكولوجية) بامتياز.
وإن الهروب الي الحب..هو هروب رد الفعل لا الفعل..
لكنه يبقي -برغم كل شيء- هروبا..
الهروب الي الحب كالهروب الي المخدر..والي الضياع..والي أحضان البحر بحثا عن سراب الهجرة..
كلها طرقا جانبية نتواري فيها عن قسوة واقعنا بكل ما فيه.
وعن فشلنا في خلق واقع جديد يناسبنا للعيش فيه.
ثم لا نعدم بعد ذلك كله من يصبّ علي رأسنا اللوم متهما إيانا بكل نقيصة.!
متناسٍ أنهم الآخرون دائما..
فإن اردتم ان تحاكموا أحدا..
وإن أردتم أن تدينوا أحدا..
أو أن تبحثوا عمن تحملونه هذه التركة الثقيلة والارث الثقيل
فدونكم أنفسكم يا معاشر الاجيال السابقة..
فلتحاكموها أولا أمام ضمائركم،
ثم لتكونوا شجعانا مرة يا جبناء العمر ولتعلنوا تنحيكم عن كل شيء..
لتعلنوا ان الظلمة هم أنتم، وأن الطغاة هم أنتم، وأن الجهلة والمغيبين
والمحملين بكل نقيصة وخصلة سوء هم أنتم..
وأنكم السبب الرئيس في كل ما وصلنا اليه.
ولتدعوا جيلي وشأنه، فحسبنا ما نحن فيه..
وحسبنا انكسار الحلم،
وموت الأمل،
فلنا الله..
لنا الله.

هناك تعليق واحد:

  1. جميل هذا التحليل سلمت يمينك .... وما أجمل خطابك لمن غفوا فترة طويلة من الزمن (((فدونكم أنفسكم يا معاشر الاجيال السابقة..
    فلتحاكموها أولا أمام ضمائركم،
    ثم لتكونوا شجعانا مرة يا جبناء العمر ولتعلنوا تنحيكم عن كل شيء..))) لاحرمنا الله من إبداعاتك
    لتعلنوا ان الظلمة هم أنتم، وأن الطغاة هم أنتم، وأن الجهلة والمغيبين
    والمحملين بكل نقيصة وخصلة سوء هم أنتم..
    وأنكم السبب الرئيس في كل ما وصلنا اليه.
    ولتدعوا جيلي وشأنه، فحسبنا ما نحن فيه..
    وحسبنا انكسار الحلم،
    وموت الأمل،
    فلنا الله..

    لنا الله.

    ردحذف


ما رأيك فيما قرأت...؟؟؟؟؟...(((أضف تعليق)))..