الثلاثاء، 5 فبراير 2013

مجتمعاتنا..واللاوعي..


لقد غدا من المشاهد الكثيرة التكرار في حياتي في الآونة الأخيرة أن أسقط فجأة فاقداً للوعي...!
وإني لأنظر لأمر كهذا علي اعتبار كونه من أبسط حقوقي البشريه، لكن من الواضح ان الغالبية العظمي من المحيطين بي لم تصل بعد الي هذا الإقتناع، ولم يترقوا بعد ليواكبوا تلك العقلية التقدمية التي احملها..
ولقد اعتدت ان استيقظ بعد كل مرة افقد فيها الوعي في مكان مختلف كل الاختلاف عن المكان الذي سقطت فيه مغشيا علي،
فدائما هناك تلك السيدة التي يبدوا وكأنه لا يُهمها شيء في الوجود، سوي أن ترقب تلك اللحظة التي تسقط فيها غائبا عن الوعي، لتشهق هي في جزع مهيبة بمن حولها ان يسارعوا الي انقاذ ذلك البائس الذي سقط للتو.
ودائما هناك ذلك الشاب القوي المفتول العضلات الذي يسارع بحملك بين ذراعيه -وكأنه يحمل عوداً من الخل!- ليضعك فوق أقرب سرير..!
ولست ادري حقيقية من اين يتيسر لهم العثور علي هذا السرير..؟!
لدرجة اني انتويت ان افقد الوعي في المرة القادمة في وسط الصحراء ربما، فقط من اجل ان اصعّب عليهم قليلا مهمة العثور علي سرير نظيف يضعوني فوقه.
وبعد مهمة عثورهم علي سرير -وهي ليست بالمهمة الشاقة كما أسلفنا- يأتي دور الفتاة -الرقيقة الملامح نوعا-والتي تسارع برسم انطباع علي وجهها -زائفا مع الاسف- بالحزن عليك، واللهفة علي إفاقتك -علي أمل ان تكون أعزبا مثلا!-، 
 وكأنه من المتعارف عليه ان يرتبط الفاقدَ الوعي بأول فتاة توقظه من اغمائته..!
لكنها فيما يبدوا فتاة غير محظوظة اذ يصدمها رؤية الدبلة الفضية الراقدة كحية غافية بين اصابعك ، فترتد مصعوقة وهي تفكر جديا في معاقبتك علي هذا التصرف الأرعن المتمثل في (الخطوبه)، وتودّ ان لو رفعت ذراعيها الي السماء -كعادة كاهنات الأزتك- لتستمطر عليك لعنة الآباد.
لكنها تقرر ان تؤدي واجبها برغم كل شيء، فما يدريها لعل احد هؤلاء السادة -الذين احتشدوا في لهفة لإلقاء النظرات علي جسدك المسجي ووجهك الشبيه ببرتقالة ناضجة- يبحث عن عروس ما، فيعجبه فيها تلك الشهامة الزائفة، فيسارع بالركوع علي قدميه رافعا يديه في استجداء معلنا عن رغبته في الاقتران بسيدة الأقمار السبعة، مليكة الرأفة والرحمة والحنان.
تحمّسها الفكرة فتنحني -في رشاقة- عابثة في حقيبة يدها الصغيرة مخرجة منها زجاجة عطر، وجهاز تنفس اصطناعي، وأمبولين للحقن الوريدي، وكمية لا بأس بها من الجلوكوز..!
و لا تسلني ابدا من اين اتت بذلك كله، ولا كيف اتسعت حقيبة اليد الصغيرة تلك لهذه الأشياء كلها..!
واني لعلي أتم استعداد ان اؤكد لك انها لو ارادت اخراج الجهاز المسؤل عن إجراء آشعة الرنين المغناطيسي من حقيبة يدها -وهو جهاز بحجم غرفة كاملة- لفعلت ذلك ببساطه..!
وانا قد درجت دائما علي اعتبار كل فتاة تحمل حقيبة يد، فتاة غير عادية الي ان يثبت العكس..
أعتبرها فتاة ذات قدرات خاصه،احدي ساحرات القرون الوسطي متنكرة في زي فتاة عادية -تتظاهر بكونها ليست كذلك-،
وأنها حينما تعبث بيدها داخل الحقيبة، فهي في الواقع لا تبحث عن شيء، وانما تتلوا طلاسمها ليخرج لها ما تريد.!
لكن بغض النظر -وبعيدا عن هذا الإستدراك- فإن الفتاة تؤدي عملها علي اكمل وجه حقا..
في وهن تفيق انت..لحظات من الصمت الهامس..

اعصاب الحضور تتوتر..حدقات الاعين تتسع..
والكل ينتظر منك أن تهمس لهم بسر الخلود ، 
وكأنك زائر فوق العادة قادم للتو من خلف اسوار الحياة.
لكنك لا تلبث أن تخيب آمالهم بأغبي سؤال عرقته البشريه...
- أين انا..؟
وهنا يأتي دور ردّ الفعل المتوقع، يبصق أحدهم ساخطا،
وينفخ واحدا آخر في ملل،
بينما يطقطق ثالث بشفتيه في ضيق ،وهو يجيب اجابة مقتضبة، وكأنه قرر فجأة انك لم تكن تستحق كل ذلك المجهود، ولا كل هذا الإهتمام -سيما بعدما أبديته من غباء مضاعف ومبالغ فيه.
ولكنك تتجاهله وتدير عينك فيمن حولك بحثا عن..
نعم هو ذلك الرجل بعينه، بشاربه الكث، وشعره البني الفاتح -الذي رأي انه قد اضاع ما يكفي من العمر رابضا عند مقدمة الرأس، وأن الآوان قد حان ليذهب الي مؤخرتها بحثها عن بعض الرعاية ربما.
نفس الرجل في كل مره..نفس الملامح..ونفس النظرة الباردة المشمئزة ، وكأن السقوط فجأة فاقدا للوعي شيئ لا يجيده إلا الشباب الرقعاء الذين فقدوا كل احترام للمجتمع المحيط بهم.!
وكلي ثقة أن أمر (فقدان الوعي) لو وُكِلَ اليه لأصدر (فرماناً) يقضي بأنه من المجرّم قانونا ان يفقد احد الوعي في مكان عام، او في مكان به اطفال صغار، او بالقرب من محطات الوقود.!
  ولربما بالغ واشترط ان يُقدّم كل من يريد أن يفقد الوعي (عريضةً) يخبر فيها الحكومة بنيته الآثمة تلك، علي ان تكون تلك (العريضة) مشفوعة بثلاثة طوابع بريد علي الاقل..!
لكن باستثناء ذلك الكهل المشمئز، وباستثناء دبلة الخطوبة التي ظنّتها الفتاة -الرقيقة الملامح نوعا- دبلة خطوبة، -بينما هي ليست كذلك في الواقع-
 فإن الموقف باكمله يوحي بالثقة والاطمئنان.
أشخاص لا يعرفونك مطلقا، بداخل كل منهم عالمه الخاص وهمومه الذاتيه واحزانه التي تكبله وتعيقه، 
ومع ذلك لا يتأخرون ثانية واحدة في مساعدتك بكل ما يستطيعون، ولا يدخرون جهدا في الوقوف الي جانبك حتي تستعيد ما سلبه منك (اللاوعي).
ان المجتمع المصري ملييء بالمثالب والنقائص ، لكنه فيما يبدوا مازال مجتمعا موحيا بالثقه،ومازال يحمل بداخله الف الف بذرة خير تحتاج فقط الي الوقت المناسب لتنموا وتغدوا شجرة مثمرة وارفة الظلال.
انني أقسوا كثيرا علي مجتمعاتنا الحاليه، وارغب حقا في تغيرها من الجذور، لكن العيش بداخل مجتمع يسقط فيه الانسان فاقدا للوعي علي قارعة الطريق دون أن يهرع احدهم لنجدته، او تهبّ فتاة من بين الجموع لتغرق وجهه بثلاثة لترات من العطر -الرديء!- ،هو مجتمع يقشعر وجودي من مجرد تخيل وجوده ،فضلا عن إمكانية العيش فيه.
ان الناس بداخلها طاقة خير لا تكاد تخطئها عين، لكن هموم الحياة تأد طاقة الخير هذه في مهدها، ولا تكاد تسمح لها حتي بمجرد إطلالة رأس.
وهنا يأتي دور الشدائد والمحن، فهي تعمل علي اذابة ذلك الحاجز الذاتي السميك الذي يكبل كل منا بداخل جسده،
 وحينها يتعالي نداء الفطرة هادراً يصمُ الآذان،
فتجد الحب..تجد العطف..تجد الرقة والوداعة والمواساة يبديها البشر لبعضهم البعض، دون انتظار مقابل أو توقع جزاء.
والتغيير الحقيقي الذي ننشده هو تفعيل طاقة الخير هذه علي مستوي الإنفعالات البشرية كلها..(الحزن ـ الفرح - اليأس - الطموح ..الخ)..
التبديل الذي نرجوه هو ان يتراحم أفراد المجتمع، ويتوادّوا، ويتواسوا ،ويظهرون لبعضهم البعض، الحب والخير في  كل حال، ولا يقتصر ذلك علي حالات الشدائد فحسب.
والتحدي الأكبر هو ايصال فكرة إنه ليس من الضروري أن أسقط فاقدا للوعي كي أعلمك أنني محتاج لمساعدتك وعونك، ومحتاج لوقوفك بجانبي، تشدّ من أزري وتقوي ظهري ،
 وتربتْ علي كتفي في لطف ووداعه.
انني قد اكون يقظا منتبها ماشيا علي قدمي، لكنْ ما بداخلي منهار..!
 قد ابتسم في الظاهر لكن ثمة مأتم بين جوانحي..!
انا لا أريدك ان تمسح دموع عيني حين تنزل وحسب.
 أنا في حاجة قبلها لأن تمسح عن قلبي أنهار البكاء التي يغتسل فيها عاريا لا يستره شيء من عزاء.
تُري كم عدد أولئك الذين يمشون بجانبنا، يبتسمون في وجوهنا، يتجاذبون معنا أطراف الحديث، بينما كل واحد منهم يودّ أن لو ارتمي في أحضانك باكيا شاكيا..؟
انه يمشي من قهره،ويبتسم من بؤسه، ويتحدث لأن التأوه والصراخ، رابض هناك خلف الباب ينتظر الفرصة ليعلن عن نفسه.
اننا نتطور حقا..لكن الي الأسوأ، ويوما بعد يوم يضمر فينا كل خير.
ولا سبيل لتقويم مسار ذلك كله سوي الأعتراف والمكاشفه. إننا نتردي مسوح الجاهلية صباح مساء..
جاهلية التفكير..والشعور..والتعامل..والتقييم..والسلوك.
جاهلية تلقي المشاعر، وتصديرها.
والجاهلية أينما وجدت فهي سمٌ ناقع، لا سبيل للبرء منه سوي ترياق الدين.
إن المنهج السماوي -وحده- يمنّ علينا بكونه يصف لنا الطريق المغلف بالضباب وصفا دقيقا صادقا.
انه يزود فِطَرُنا بخريطة تحدد لنا مسار الأقدام كي لا تنزلق، وحتي لا تستهواها المشارب واعوجاجات الطريق.
ان هذه المجتمعات ان لم تُداوي فستسقط في الوحل يوما حتما، وستفقد قدراتها المناعية علي الصمود بعد زمن طال ام قصر.
وحين يفقد المجتمع قدرته المناعيه علي المقاومة فإن هذا يعني إعطاء الضوء الأخطر لأشد الأمراض فتكا كي تقضي علي البقية الباقية منا،(إيدز) الأجساد كي يقتلها، و(أيدز) الأفكار كي يسمهها، و(إيدز) القلوب كي يحجب نور بصيرتها، و(ايدز) الفطرة كي يمسخها فلا تعرف للطريق رجوعا بعدُ.
 ان العودة الي المنهج الإسلامي -فوق انها واجبة- قد غدت في زماننا هذا ضرورة وضمانة أخيرة تحجزنا عن السقوط.
ان ناقوس الخطر قد دُقّ منذ عصور، وعلي مدي هاتيك الأزمنة المتتالية يخفت الرجع يوما بعد يوم.
وحين يتلاشي ذاك الصدي ويُكفّن رجعُه، وتُشيّعهُ ما تبقي لدينا من ضمائر، فلن يعود هناك ما يغري الأرض لاستضافتنا علي ظهرها طويلا.
ان مجتمعاتنا المعاصرة ان لم تعد الي الدين الحق كما نزل، -شريطة أن تأخذه كله بلا انتقاء- فإن مسألة القضاء المُبرم عليها، هي مسألة وقت لا أكثر أو أقل،
ولقد تضائلت الفرص والخيارات امامنا كثيرا، 
بحيث أضحت المعادلة بسيطة ومتفرده: 
إنه الرجوع الي المنهج او الطوفان..
(
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ)


                                          
                                              نورالدين محمود           



هناك تعليقان (2):

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركانه ,,,, أسأل الله أن تكون بخير حال ,,,,,,,,, أما قبل فوجئت اليوم عند متابعتي للرسائل على الفيس أن هناك رسالة منك , ظهر منها ثلاث كلمات :شرف عظيم لي يادكتورة , ثم عبارة لن تكون قادرا على رؤية الرسالة لأنه بريد عشوائي , كما وجدت أنك غيرموجود على الفيس !!!فقلقت أرجو مراسلتي على جوجل وجزاكم الله خيرا

    ردحذف
  2. محتاجلك جدا يا دكتوره تدعــيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلي..

    ردحذف


ما رأيك فيما قرأت...؟؟؟؟؟...(((أضف تعليق)))..