الجمعة، 25 يناير 2013

ويضيع العمر../ قصة قصيره.


من (كندا)وعلي بريد المدونة وصلت هذه الرسالة من الأديبة والصديقة الغائبة الحاضرة (س . ن)،وهي لم تطلب نشرها، لكنني ولأسباب كثيرة -قد تدركون بعضهاعند الانتهاء من قرائتها- آثرت أن أفعل ذلك.وقد اقتطعت من الرسالة بعض أشياء، وأدخلت عليها تعديلات طفيفة لتناسب الجو القصصي لا أكثر أو أقل،
  ~~~~noor 


غدا الجمعة..
اليوم الذي أشتاقه مثلما لم أشتق ل
شيء قبل، وأظل أقضي الساعات الطوال منتظرة أن يطلّ علينا من نافذة الزمان العلوية العبقة الرائحه.

ومع ذلك -وكلما اقترب موعده- تمنيت أن لو تأخر عن اللحاق بركب الايام فلا ياتي مطلقا..!
وقد سببت لي هذه الأزدواجية في التمني قلقا وتوترا ذاتيا أرّق عليّ حياتي، الأمر الذي دفعني أكاد أدعوا الله أن يمحوا يوم الجمعة من عداد أيام الأسبوع حتي أستريح.
ولو صرت أميرة متوّجة يوما -كما كنت أري نفسي دائما في أحلام اليقظه- فلسوف أصدر مرسوما (أميريا) يقضي بإلغاء يوم الجمعة إلغاءا أبديا..!
وأما عن سبب ذلك كله فدعوني أخبركم بحكايتي..
وأنا لا اريد منكم تعاطفا أو ذما..فقط غاية ما أرجوه أن تستمعوا في هدوء وصمت، صمت يليق بأشجار الغاب التي تنصت كل صباح لأغاريد الطيور وحكاياها، وهي تهز جذوعها في وقار دونما غلظة أو ابداء أدني لمحات من جفاء.
 مادمنا قد اتفقنا فلنبتدأ إذن من فجر الحكايه..
نحن أسرة عريقة جدا، عريقة لكنها تقليديه تماما، التقاليد عندها مقدمة علي كل شيء، وقد جري العمل في أسرتنا علي اجتماع كل أصول العائلة وفروعها في (البيت الكبير) كل جمعة.

 عاصرت ذلك أيام جدي، وبعد وفاته ظلّ والدي محافظا علي التقاليد وكأنه ورثها عن جدي مع هذه الفيلا العتيقة -الجميلة رغم ذلك-.
أمسيات كثيرة نقشت فوق هذه الجدران، أمسيات فيها المرح ، والضحك، ودفء الألفة والإجتماع ، وفوق ذلك كله قدر هائل من الحب يكنّه الكبار لبعضهم البعض، ويحملونه لنا نحن أبناء العائلة الصغار.
وكطفلة لم يكن يعنيني من ذلك كله شييء غير ذلك المرح الزهري الذي لا حد له ولا منتهي.
كنا أطفالا كثر نلعب .. نغني .. نجري .. نتشاجر .. ونفعل كل يفعله الصغار بلا قيد أو تعنت.
متي بدأت مشكلتي..ومتي انتبهت لوجوده...؟
لست أدري تحديدا ، فقد كان عددنا يربوا علي الخمسة عشر طفلا وطفلة.
وقد كان دائما موجودا، لم يكن أجملهم ، لم يكن أقواهم ، بل وربما لم يكن أكثرهم مرحا.
لكن من قال أن أشياء كهذه تحدث فرقا في تصور وخيالات فتاة صغيرة مثلي..؟
حقا لم يكن أجملهم...لكني أستطيع الجزم أنه كان يحمل سحرا غامضا، وكأنما يكمن سرّه في نبع جمالي بداخله يشعّ فتبدوا آثار ذلك الإشعاع علي قسمات وجهه.
ولم يكن أقواهم..لكني أذكر يوم سقطت في البئر العتيق الجاثم فوق فناء منزلنا ، حيث تراجع الجميع خطوات الي الخلف، ثم تسمّر بعضهم في مكانه مكتفيا بالجزع والبكاء، بينما أسرع البعض الآخر هرعا الي داخل المنزل لينادي الكبار.
أما هو فلم يتردد لحظة واحدة في إلقاء نفسه خلفي، انني لم أكد يستقر جسدي في قاع البئر، وقبل حتي أن افكر بالصراخ فوجئت به أمامي، بقسمات وجهه المريحة، ونظراته العميقة المطمئنه، وجسده المتوتر الذي لا يدرك ما ينبغي عمله تحديدا.
حملني بين يديه وهو يرفع رأسه الي الأعلي طالبا منهم أن يقذفوا حبلا لأتمسك به في رحلة الصعود..
وبسرعة ومهارة قام بربط الحبل في قوة -وبرفق- حول خصري الصغير الناحل، ثم قام بتمزيق قميصه الي شرائح صغيره ليوقف بها نزيف الدم من آثار جروح يداي وركبتاي..
كان يؤدي عمله في سرعة وتوتر..
أما أنا فقد كنت في شغل عن ذلك كله، مكتفية بالنظر اليه، وضفائري الصغيرة تهدهدها الريح فوق راحتيه.
يومها لم أصرخ قط..لم أبك..لم يبدوا علي وجهي انفعال من أي نوع، لكني بداخلي كنت فرحة مبهورة متقطعة الانفاس..
وكأنها قصة لأميرة سقطت فقام فارسها بمجابهة الخطر فداءا لرمش عينيها الخضراوتين.
وقد أرجع الأهل ذلك الإنطباع الي تأثير الصدمه وتوابع السقوط،وعلي سرير غرفتي تركوني لأستريح.
وطوال الأسبوع التالي لم أتحرك من سريري مطلقا، لم أكن مريضه، لم أكن متعبة، لكنني كنت مسحورة وشبه مخدره، خدر لذيذ يسري في أعماقي وأطراف أناملي أنا ابنة الأحد عشر ربيعا.
 لم يكن يؤنس وحدتي طيلة الأسبوع سوي الاحلام فحسب، وكنت  -كلما اقترب منسوبها من النضوب- أتحامل لأزيح ستائر غرفتي، وعلي ضوء القمر أتلصص النظرات حيث البئر الغافي، فتتسارع الأحلام والأفراح إلي مخيلتي لأعود الي نومي المتقطع وقد ملأ وجهه الصغير فراغ قلبي كله.
وانقضي الأسبوع وأتي اليوم المنتظر مسرعا و رأيته.
القي أبواه عليّ السلام، بينما مدّ يده ليصافحني في خجل وهو يسائلني في رقة عن حالي وصحتي، لكني اكتفيت بابتسامة خجلي أتبعتها بسحب يدي الي جانبي.
وعلي خلاف العادة لم أشارك صغار العائلة في لعبهم تلك الليلة، وأمام إلحاحهم اعتذر لهم والدي متعللا بكوني مريضة، فتركوني وأخذوا في لهوهم ومرحهم.
وقضيت أنا السهرة كلها في مراقبة حركاتة وخلجاته وقسماته وكل ما يبتدره من فعل، وكأنني أختزن كمّا كافيا من ذكراه يكفيني لأحلام أسبوع قادم آخر.
ومرت الأعوام سراعا وأنا علي هذا الحال، أحبه وأذوب فيه عشقا، لكنني لم أملك ابدا ما يكفي من الجرأة لأتحدث معه حول ماهية ما أشعر به.
لست أذكر انه قد دار بيننا حديث طويل قط، لكن عيناه لطالما قالتا لي الكثير..
لكنها لم تقل أحاديث الهوي والشوق كما تتخيلون..!، بل كانت نظراته اليّ أشبه بالأعتذار المغلف بالتقدير، وكأنه يقول لي: (إن لكِ في قلبي مكانا أرفض البوح به سوي لقطرات المطر، لكن -ومعذرة يا غاليتي- ثمة واحدة أخري..)
وحقا كانت هناك تلك الأخري..
إحدي قريباتنا أيضا، كانت جميلة..رقيقة..لكنني كنت أحسها ثقيلة الظل غير جديرة بكل هذا الحب.
وكنت -علي صغر سني حينذاك- أقف طويلا أمام المرآة لأتسائل في غضب مشبع بالانكسار: ما الذي يحبه فيها ولا يوجد في..؟ 
أنا أجمل منها، وأرقّ وأنضر..، وكل أولاد أقاربنا يتمنون أن لو أنلتهم فقط ولو مجرد بسمة شاردة.
لكنني -وبرغم ذلك كله- لم أكرهه..، كنت أتمني، لكنني لم أستطع.
 كانت الأيام تجري سراعا وتغير كل ما حولي ومن حولي، لكن هذا الحب ظل في قلبي كيانا مقدسا، لم تستطع عوادي الأيام ان تقربه أو تدخل عليه يد التعديل والتغيير.
ولما وصل كلانا الي عامه الواحد والعشرين، لم يخيب أملي، فشبّ فارسا رقيق المحيّا، شجي النفس، عالي الأحساس.
لكن قلبه ظل كذلك معلقا بها وحدها...ولم يكن يعيرني أي انتباه.
هل هي تحبه حقا..؟
لست أدري، لكني متأكدة أن ملء الأرض من أمثالها لن يحبه ذرة واحدة مما أكنّه له في قلبي من حب.
ولأنني عاشقة حتي أخمص قدميّ، ومدفوعة بالرويات والقصائد التي لطالما أدمنت قرائتها- كان ولابد أن أضحي..!
ولو تسألوني الآن بعد مرور كل هذه السنين عن أغبي قرار اتخذته في حياتي لقلت لكم: هو اني قررت أن أتركه..لها.
وهروبا من واقعي المر وقتها، ومحاولة للنجاة بنفسي من ايامي التي كانت تتعثر في أحزانها، انتهزتُ فرصة إكمال الدراسة الجامعية في الخارج، لأودّع بيتنا الصغير وأسافر.
ومن المؤكد أني لم أنس توديع البئر العزيز -الذي شهد ميلاد حبي له- ببضع قطرات نزلت من عيني وكأنما صخرة تشققت بماء المزن قد جادت بها. وفي الخارج بدأ فصل جديد من حياتي..ولكنها كانت حياة جهدتُ كي تكون محافِظة الي الحد الأقصي -برغم ان كل شيء كان متاحا لي فعله هناك-.
ولقد كنت أتصور أن الحياة في (كندا) سوف تنسيني مصر بكل ما فيها ومن فيها، لكني كنت مخطأة حتما، فقد حملتني حنينا فوق الحنين، واشتياقا عارما للرجوع لا أطيقه.
لم يغب عن بالي يوما، لكني كنت أهديء من روع نفسي حالفة لها أنه من المؤكد قد نسي حتي اسمي، فضلا عن أن يتذكر حبي، ولربما هو يقضي الان أسعد أوقات عمره بجانبها..
كان هذا الشعور يقتلني فيزداد بكائي حتي أغرق في بحرين من دموع ونوم، فلا أصحوا الا في اليوم التالي منهكة القوي فاترة الشعور.
طالت غربتي، لكنني لم أفكر في الزواج -برغم العدد الكبير من اللائقين الذين تقدموا لخطبتي - سواء هنا في الخارج، او فاتحوا أهلي في مصر.
وقد كنت أرفض في عنف، معللة رفضي هذا في البداية برغبتي في اكمال الماجستير والدكتوراه اولا، اما الآن فلقد صرت أرفض وحسب، وأشعر ان لو زاد ضغطهم عن هذا الحد، فلسوف أصرخ في وجوههم معلنة أني أرفض من أجله هو.
وفي الكثير من الأحيان كان يملئوني شعورا بالاشمئزاز من نفسي، ويملؤني شعورا بالابتذال والضعة والهوان، وأتمني ان لو عاد الماضي فتجنبت سقطة البئر، او تجنبت السفر وصارحته بما أكنّه له في داخلي ولطلبت اليه ان يتزوجني، وأواجه الموقف كيفما يكن حينذاك وأنتهي.
وكلي ثقة أنني لم أكن لأفعل هذا، لكن شعور الابتذال والخيبة والندم لم يبقوا لي بقية من تعقل..
ولأن تجرّع الحنين أشد الف مرة من تجرع السم، فقد اتخذت قرارا بالعودة الي مصر..
لست أدري كيف امتلكت الشجاعة لأتخذ قرارا كهذا، لكنني أيضا أتسائل الآن مندهشة: كيف أمكن لي ان أمضي كل هذه السنين وحيدة مغتربة منكسرة القلب محطمة الوجدان..؟
لكن من قال ان الايام تغير فينا أي شيء...؟
ها انا البروفسيرة الاكاديمية البالغة من العمر 27 عاما، ينتفض قلبي التياعا تماما كما كان ينتفض منذ ستة عشر عاما في تلك الليلة في البئر، وكأن عمرا كاملا لم يمر، وكأنني مازلت تلك الفتاة الصغيرة ذات الوجه القمري والصفائر المنسدلة التي تحلم دونما حسيب او رقيب.
وفي رحلة العودة كان مقعدي بجانب ندف السحاب حيث ترتسم صور ذكرياتي، كانما استعرض فيلما عتيقا خالدا لم يمح الدهر منه شيء.
ومع هبوط الطائرة انخلع قلبي بداخلي ...هل يمكن حقا ان اراه بعد كل هذه السنين..؟ هل مازال يذكرني...؟؟ هل سيصافحني كما الماضي..؟ هل يبتسم في حياء وهو يسائلني عن حالي كما فعل في يوم سقطة البئر..؟
ولم تتوقف الأسئلة عن التوارد علي ذهني المكدود طوال الريق، ولم ينتشلني من براثن الحيرة سوي صوت السائق المرحب:
(حمدا لله علي السلامة يا دكتوره..لقد وصلنا)

بخطوات مرتعشة أطيء باب الفيلا -الذي شهد اجمل سنوات عمري، وكنت اتمني ان أشبع عيناي من رؤية كل جزء من أجزاء حديقتنا الصغيرة المحبببة الي قلبي لكنني لم استطع ان التفتْ..
يقيني بوجود البئر الصغير علي بضع خوات مني منعني حتي من مجرد التقاط الأنفاس، وحجرت عيناي عن البكاء بشده، وقطعت ما تبقي لي من خطوات بسرعة بالغة، وعلي باب المنزل عانقت أبواي ومن بين دموع الفرح التي تتقافز من عينيهما قاما بالترحيب بي..
ولم أدر هل دموعي انا دموع فرح..أم ندم.. أم التياع..؟

في البهو الواسع تعانقنا طويلا، وبدت أثار الارهاق من جراء السفر بادية علي ملامح وجهي فطلبا مني أن أصعد غرفتي لأستريح اولا.
فوافقتهما ونهضت متضاحكة لأصعد السلم وكلي شوق لرؤية غرفتي بعد كل هاتيك السنين، لكن فرحتي لم تلبث ان ماتت علي شفتاي عندما تصاعد من خلفي صوت امي قائلة: سنوقظك عند تمام الثامنة يا ابنتي حتي تستقبلي أفراد العائله فكلهم مشوق للسلام عليك.
وقبل أن أسألها عن كيفية معرفتهم بخبر وصولي أكملت مسرعة: هل نسيتي أن اليوم هو يوم الجمعه..؟
كنت أعطي ظهري لأمي -صاعدة درج السلم- بينما تقول امي هذا الكلام، لكنني شعرت ان كلمة (يوم الجمعة) خنجرا طعنني في سويداء قلبي، وتسارعت انفاسي وبدأت دقات قلبي تعلن عن نفسها في رتابة هادره.
- اليوم الجمعه...؟ كيف نسيت...؟
لم أرد أو أعقب بشيء، وبأنامل مرتجفة قبضت علي مقبض الباب شبه فاقدة للوعي، وعلي السرير العزيز ارتميت باكية ملذوعة الفؤاد، لم استطع النوم، ولم أقوْ حتي علي استبدال ملابسي.
فقط بعدما انتهت نوبة البكاء أخذت أتصفح أجزاء غرفتي التي طال اشتياقي اليها، وخطر لي أن ألقي نظرة علي البئر الذي تحجبة ستائر غرفتي الوردية الالوان.
وعلي عكس ما توقعت لم أبك حينما وقعت عيناي عليه، فقط أخذتني دوامة من الشرود التي رأيت فيها أقاصيصا كاملة عن حياتي، لهوها وفرحها..وحزنها الكاسف الأليم.
دوامة لم أفق منها الا علي صوت دقات امي علي الباب تستحثني للنزول، فقد وصل الجميع..
شهقات متتالية أخذتها محاولة تهدئة نفسي قبل أن أجيبها بأني سأنزل علي الفور.
ولو قلت لكم انني -وفي طريق النزول- كنت أنتعل قلبي لما ظننتني كاذبة، كل خطوة كانت تقطع شريانا بداخلي، كانت توقظ حلما قد انطوي، وتحيي أملا مات منذ زمن بعيد.
من أعلي السلم -وبعين متورمة من البكاء والاجهاد- القيت نظرتي الاولي علي الجميع، وقد هالني أن نفس العدد القديم كان موجودا تقريبا.
نفس الوجوه التي تربيت معها، وكلهم يرنوا اليّ بنظرة تملؤها ابتسامة نقية صافية مشتاقه.
ولكني كنت في شغل عن ذلك كله بالبحث عنه...، وكانت المفاجأة أنه كان موجودا، لكنه -وباستثناء الجميع- لم يرفع وجهه اليّ، بل كان يحدّ النظر الي الأرض في اطراق أسيف.
(لقد اشتقت لمرأي عينيك) هكذا تمنيت لو اني صرخت فيه، لكن ما بداخلي من وهن لم يعطني طاقة كي أحول حتي بصري عنه، 
وكان مخرجي من ذلك  كله هو مسارعة بنات العائلة لمعانقتي وتهنئتي بسلامة الوصول.
احتملت عليهن حتي نزلت اسفل البهو، وانا مازلت اسارقه النظرات، الجميع يسلم علي..
اما هو فلم يرفع وجهه الي قط، بل ظل علي عادته محدقا الي الارض في صمت.
انتهي الجميع من عبارات المجامله، ولم يبق سواه، وبهدوء تقدم خطوات قليلة ليقف امامي مرفوع الهامة -مغمض العينين-،
 لم يمد يداه الي كما فعل الجميع، لم يبتسم في وجهي كما تقول التقاليد، بل اكتفي بأن فتح عينيه في هدوء وهو يخرج زفرة عميقة وكأنه ينتزعها من اعماق اعماقه، لتبدوا لي من خلفها عيناه اللاتي كانتا تحملان -بجانب الاعتذار القديم- حزن الدنيا كله.
مرحبا بك في دارك بين أهلك وأصدقائك القدامي.
قالها بصوت رخيم، وبلهجة بدت -رغم هدوئها- مليئة بالكثير من الانفعال.
لم أرد، وبدا انه لم يكن ينتظر مني ردا.
 حيث تراجع الي الخلف خطوتين ليجلس في مقابلتي.

(وانا الذي كنت اظنك أسعد اهل الارض..؟ أتراها لم تكن الزوجة المناسبة لك..؟)
هكذا تمنيت لو اني سألته، لكنه كان حديثا مكتوما داخل عقلي.

لكن ثمة شيء غريب، انني لا اراها هنا...فلماذا.؟
(أمي أين ليلي...؟)
تعمدت أن أرفع صوتي بالسؤال لأراقب رد فعله..ولم يخب ظني.. فقد انبأتني اختلاجة عينيه بالكثير والكثير.

(لقد تزوجت منذ ثلاث سنوات وسافرت مع زوجها الي احدي دول الخليج).
سمع ردها فعاد الي اطراقته، ولم يرفع نحوي عينا حتي انتهت السهرة فبادر الجميع الي الانصراف لكنني اوقفتهم طالبة من امي احضار الهدايا لاعطي كل منهم هديته.

ومن بين كلمات الثناء علي ذوقي التي سمعتها من الجميع وهم يتلقون هداياهم، لمحته -بطرف عيني- وهو يجاول الخروج من الباب في هدوء مصطنع.
لكنني ناديته (مقداد، هديتك..)
في هدوء استدار ليرد: لكنني لست بحاجة الي هدية، يكفينا جميعا عودتك.

- لكنني مصممة.
ومددت يدي الي جانبي لأناوله علبة صغيرة ، وعلي عكس الجميع قمت بفتحها امامه وأنا أسأله : هل تذكر هذا...؟
- حدجني بنظرة عميقة متسائلة وهو يجيب في حرج : نعم، هذا جزء من قميصي الذي مزقته لأضمد جراحك يوم ان سقطتي في البئر، غريب كونك قد احتفظتي به كل هذه المده.
لم التفت الي نبرة الحرج في صوته، ولم أهتم بالعيون العديدة للمحيطين بي وهي تراقبني في اندهاش وتعجب.
كل ما كان يهمني هو رغبتي في اقتناص الفرصة لأعاتب عينيه علي اختياره..
(انا التي لم تخترني انت قد عشت لك عمرا بكامله، بينما هي التي أعطيتها كل شيء ليست بجوارك الآن، وانني لأري فيما حدث عدالة شاعرية من نوع ما، وأظن قد آن الاوان لأبكي لك -يا ابن عمي- لا عليك، فقط لتعلم انني من احببتك حقا لا هي).
لم يتكلم، ولم يبدوا عليه اي تغيير، لكنني علي ثقة تامة أنه قد فهم كل حرف باحت به عيناي لعينه.
دار علي عقبيه وانصرف، ومن ثم تبعه الجميع وهم يلوحون لي في وداع.
ولم انتظر انا خروجهم بل هرعت مسرعة صاعدة الي غرفتي تاركة خلفي نظرات امي المندهشة وابي المتعجب.
لحظات قصار قضيتها وحيدة في غرفتي غارقة في الظلام، قبل ان يتبادر الي مسمعي صوت طرقات خفيفات اتبعها دخول احدي قريباتي لتنظر اليّ معقودة الحاجبين وهي تقول: (لقد جعلتك بلاد أوربا اشد جرأة بكثير عما عهدناكِ..؟
وكنت انا اريد إفهامها ان القضية لم تكن قضية جرأة، بقدر ما هي قضية قلب لم يعد لديه ما يخسره.
لكن غصة كبيرة في حلقي منعتني مجددا من الكلام فصمت.
شجاها صمتي فناولتني كوبا من الماء وهي تقول فجأة: (ما يمنعك لو تزوجتي به الان فكلنا يعلم انك تحبيه منذ كنا صغارا.؟)  
وعلي الطاولة المجاورة لسريري وضعت كوب الماء في عنف، ومن صدري خرجت زفرة حادة ملتهبة أحسست كأن روحي ستخرج معها، زفرة ألجأتني الي استنشاق هواء نقي..
فأدرتها ظهري لأزيح ستائر النافذة وأنا اطيل النظر الي البئر العتيق الغافي في سكون الليل، مجيبة اياها من بين دموعي:
( انني أريد ان اتزوج رجلا لم يحب في حياته قط، أو رجلا -علي أسوأ الفروض- قد أحب كثيرا.
أما الرجل الذي أحب في حياته مرة واحدة فحسب، فلهو لعنة ابدية لا سبيل الي مداواتها علي الاطلاق).
  أرادت أن تناقشني وجهة نظري، لكنني طلبت منها ان تتركني وحدي، لأنني اريد النوم كنت حازمة في طلبي ولم اترك لها فرصة للجدال فخرجت.
أغلقت ورائها الباب وجذبت كرسيا لأضعه في شرفة غرفتي، واضعة يداي أسفل وجهي، يلفني ظلام الليل، وأنا أفكر في عمري الماضي وفيما حدث اليوم...
ليراودني بين الحين والحين سؤالها: وما الذي يمنعك ان تتزوجيه الان...؟
ولكنني كنت اعلم انني لن افعل.
 ما الذي يمنعني...؟
كل شيء تكسر بيننا، ولابد أن أدفع ثمن عمري الضائع ، والثمن علي الارجح مزيدا من الضياع والدموع..والالم.!!
لقد كانت لي صديقة دراسة (عراقية) في (اوربا) تقول لي كلما رأتني باكية حزينه: انت تضيعين عمرك سدي جريا وراء حب محرم.
كان اسلوبها -مع الاسف- غليظا، وكانت غير قابلة للنقاش.
وانا لم اكن املك أدني استعداد لأحكي لها عما يعتمل داخل نفسي من هموم وأوجاع.
لكنني الان موقنة كل الايقان بما كانت تعظني به وتحاول افهامي اياه.
ان الحرام لهو بمثابة الحاجز الذي يفصل بيننا وبين الضياع، ويحجر بيننا وبين السقوط في دوامات الاسي وأخاديد الندم العميقه...
وهذا حالي الان.
لقد سحق الحب كينونتي، وقضي علي زهرة شبابي، وفوق ذلك كله اورثني جفافا عميقا في علاقتي بربي.
لم اكن اظن انني سأكون هشة قابلة للكسر هكذا في يوم ما من الايام.
ان حياتي مجرد مسايرة للزمن الذي لا يكبح جماحه شيء، حياة هي للموت اقرب، للجنون الصق، للرغبة في خنق ما تبقي لدي من أيام في الحياة أميل وأميل..!
لكن هل أجرؤ حقا علي معاتبة الايام.؟
الايام التي لطالما اتهمتها بالقسوه، بينما -وقد كان قراري راجعا اليّ-  لم اتورع عن اتخاذ قرارات هي اشد قسوة من الاقدار بمراحل.
-هل من الممكن ان ينساها..؟
نظرة عينه تقول انه لن يفعل، وانا قد تعبت من كرهي لها ولن اطيق ان اراي صورتها مرسومة في ظلال عينيه كل ثانيه.
-هل سأتزوج يوما...؟...لا اعلم.
-وهل سأحتمل سماعي خبر انه قد تزوج من اخري....؟
لست اعلم حقا، كل الذي ادريه انني سأعيش طوال هذا الاسبوع متنقلة بين مشاعر الفرح والندم وعبق الذكريات ونظرة عينيه الذباحتين..
انني الان منهكة القوي..ولا اشعر بأي جزء من أجزاء جسمي اطلاقا..!
انني فيما يبدوا اموت اكلينيكا، بعدما توفيت مشاعري وانتقلت احلامي البريئات الي بارئها منذ زمان طويل...
لهذا سأتوقف مجبرة عن التفكير في كل شيء،
 وغدا....ويا خوف فؤادي من غد، سأحاول ان اتخذ قرارا..
اعلم مسبقا انه سيكون قرارا باعدامي، وسيكون فيه ظلم مجحف لقلبي وما تبقي لدي من رغبة من الحياة...
قد اتزوج من اي ممن قد تقدموا لي....اي واحد منهم لن يهم من يكون...
قد أسافر الي كندا مرة اخري وآخذ معي ابواي وأودع مصر الي الابد...
قد تقتلني حسرتي واحساسي بالمهانة فلا استيقظ من نومتي هذه...
احتمالات كثيرة لست ادري ايا منها سأختار...
لكنني وعلي اية حال...  
أشفق علي قلبي 
حقا.                                                                                                             
                                                                  ( س . ن )
                                                                      كندا      
     
                   
  
               

هناك تعليقان (2):

  1. قصتك أيتها الغائبة الحاضرة (ن ,س)حركت في قلبي مزيدا من الإشفاق عليك , وهي أجرت دموعي حزنا عليك , إنها طبيعة لاتنفك عني رغم كثرة مامر بي في رحلة حياتي وخبايا الأحزان التي تسكن حنايا فؤادي في خضم أحداث أمتنا الحالية,إني أعيش ما أقرأ , أقول ياسبحان الله أن يبق قلبك إسيرا لمعروف قدمه لك إنسان ويتعلق قلبك به ويشقى فؤادك بسببه ,أقول ياسبحان الله كيف بنا مع حب المنعم العظيم الذي غمرنا بفضله ؟؟!! كيف حال القلوب التي تستشعر ود الرحيم, وكيف شوقها إليه !!!! أقول هنيئا لقلوب أنارها حب الله فإذا بكل مايردها لايجد له مدخلا إلا من بوابة النور المتدفق الذي يجلو كل دخن يحاول التسلل إليه, في القصة يانور الدين وقفات عديدة تدافعت إلى فكري وقلبي وأحاسيس شتى وددت لو اتسع وقتي لإيرادها , اللهم اجعلنا لك شكارين وإليك مخبتين , وارزقنا حبك وحب من يحبك , و اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ. فوجئت اليوم بغياب حسابك , أرجو أن تخبرني عن مروان هل كلمته؟؟؟ الا ينوي العودة ؟؟؟وأرجو أن تطمئنني عن صحتك ودراستك ومشاريعك . وأملي بالله أن أسمع كل مايسرني عنك , أسبغ الله عليك نعمه ظاهرة وباطنة

    ردحذف
    الردود
    1. (( في القصة يانور الدين وقفات عديدة تدافعت إلى فكري وقلبي وأحاسيس شتى وددت لو اتسع وقتي لإيرادها)).

      نتمني أن لو شرفتينا سيادتك بفعل هذا في يوم من الأيام.
      _____

      وأنا وأ/ مــروان بخير، فقط نحن بحاجة ماسّة للدعاء من سيادتك.

      حذف


ما رأيك فيما قرأت...؟؟؟؟؟...(((أضف تعليق)))..