الجمعة، 14 سبتمبر 2012

القناعة كنز..! / قصة قصيره.


الثانية ظهرا ، العرق..الضيق..الاكتئاب.. الضياع، أعراض رئيسية متلازمة تصحبني في تؤدة ورتابة وانا أجر قدماي جرا لأصعد درجات السلم الذي قررت -رغم كوني منهك القوي- استخدامه بدلا من المصعد، ربما لأن نفسي المثقلة بالحزن لم يعد فيها متسع لترف ركوب المصاعد، او ربما لان صعودي السلم للدور السادس -حيث أسكن- هو الشيء الوحيد الذي أفعله وتنطبق عليه لفظة صعود،
فكل ما عدا ذلك من حياتي انما هو هبوط اثر هبوط..!
برفق اضع المفتاح في ثقب الباب ثم اديره في خفوت..اذ ان آخر ما احتاجه الان هو رؤية احد او الحديث مع احد.
لكن ومع خطوتي الاولي داخل الشقة يتناهي الي مسمعي صوت قادم من غرفة الاستقبال..صوت امرأة تتبادل الحديث مع امي.
وانا اكره اشياء كثيرة في الحياة..من بينها ضيوف الثانية ظهرا..
ولان باب غرفتي هو التالي لباب غرفة الاستقبال المفتوح فكان لابد كي ادخل اليها ان امر امام الباب المفتوح..مما يجعلني هدفا سهلا لمرمي نيران من بالداخل..
أحاول السيطرة علي اعصابي وانا اكمل خطواتي برفق..
بقيت خطوتان علي باب غرفة الاستقبال..خطوة واحده..ثم خطوة اخيرة واسعه لاجتازه في طريقي الي غرفتي وانا آمل الا يكون احد قد رآني..و..
- (باسل)، (طنط) تنتظرك من وقت طويل وصممت الا تغادر قبل ان تلقي السلام عليك..تعال.
طبعا لا يكمنني الادعاء انني لم اسمع صوت (امي)..فمن المؤكد انه قد وصل الي مسمع جارنا السابع علي اقل تقدير..
تنتفخ وجنتاي في غضب وانا ادور علي عقبي متكلفا رسم ابتسامة باهتة علي وجهي ..
أدخل علي امي وضيفتها التي عاجلت امي بقولها:
هل من الممكن ان تعدين لنا كوبين من الشاي يا ام (باسل).؟
ثم بادلت امي نظرة من نوع:
(لا تقلقي-سأهدئه- فأنا اعلم جيدا لعب الاطفال هذا)
- انه ليوم نحسي بالتأكيد كي تقرر هذه الـ(طنط) الجلوس معي حتي تنتهي من شرب الشاي.
ثم ..شاي في الثانية ظهرا..هل سمع احدكم بشيء كهذا من قبل..؟
غارقا في تعاستي..والحر يوشك علي اذابة مخي بداخل جمجتي اجلس قبالتها مقررا الا التفت ولا القي اهتماما لما تقول.
لكنها فاجأتني بقولها:
(لقد علمت انهم قد اوقفوا قرار تعينك معيدا بالجامعه وقدموا عليك من هو اقل منك مجموعا وانك من يومها لا تكلم احدا وتبحث عن فرصة عمل دون جدوي)
صدمتني كلماتها..فاعتدلت في مقعدي في غضب..وانا افكرجديا في انتزاع حنجرتها لولا انها كانت بحاجة اليها للإجابة علي سؤالي التالي:
- أمي هي التي خبرتك بذلك.؟
- لا، لقد اخبر به والدك (امام المسجد) الذي اخبر بدوره ابنه صاحب (محل البقالة عند الناصيه) وهو من اخبر رواد المقهي والجيران في جلسات الصفاء التي يقضونها سويا عند (الحلاق) الذي يتعامل معه (وليد ) ابني..
- يا ويلتي..كل هؤلاء..!
تكمل دون ان تلتفت لتعليقي:
انا افهم ما تمر به يا باسل..فقد مرت به ابنتي من قبل، حيث كانت كما تعلم في الثانوية ثم..
اقاطعها في نفاذ صبر
- لو تلاحظين سيادتك فان الوقت غير مناسب علي الاطلاق لسماع قصة ابنتك..
ثم اضيق عيني مثبتا اياها علي وجهها لأسأل في صرامه:
هل لي أن اعرف فيم تريدنني تحديدا..؟
- اردت ان قولك لك لا تبتئس..فالقناعة كنز لا يفني..وانك غني بعقلك ورقيك وثقافتك..
- فقط.؟
- نعم فقط.
كان هذا يفوق قدرتي علي التحمل فانفجرت غضبتي هادره:
القناعة كنز..:؟
أعدك اني سأردد هذه الجملة الف مرة في اليوم..لكن لتعلمي انه بمجرد ان تطلب مني امي العجوز، او ابي المريض نقودا لشراء دواء فأتذكر اني لا امتلك في جيبي قرشا واحدا فسوف اتوقف عن ترديدها حتما.
يا سيدتي:
ان المباديء والمثل والقيم والشعارات أمر يصلح كمادة لاظهار الثقافه او الرقي الاجتماعي واحيانا كمادة للمتاجرة بها..
لكنها لا تصلح  لسداد ايجار السكن..او لشراء ملابس جديدة للعيد.
-أنت تجعل الحياة صعبة أكثر من اللازم.
- وسيادتك تجعلينها بسيطة اكثر من اللازم.
ودون ان انتظر منها تعليقا نهضت لاغادر ووجهي يغلي بالغضب، فاصطدمت اثناء خروجي بعيني امي الملتاعتين حيث كانت تقف وراء الباب تتنصت حديثنا فأتجاوزها مسرعا وافتح باب غرفتي ثم اغلقه ورائي في عنف..وارتمي علي سريري لابدأ طقوس كل يوم..
البكاااء..حتي افرغ الطاقة السلبية التي بداخلي..ويعود الي بعض احساس بالراحه..
لكن طرقات خفيفة علي باب غرفتي توقفني في اللحظة الاخيره.
- من.؟
- (صبي المكوجي) يريدك يا بني..هل اسمح له بالدخول..؟
تبا ما شأن هؤلاء الناس بي..هل تحولت الي مزار سياحي مؤخرا.؟
- دعيه يدخل يا امي.
- (باسل باشا عم الشباب كلهم)
كان هذا لطفي صبي المكوجي وهي تحيته الرسميه لو لاحظتم ذلك.
- قل ما تريد باختصار وبسرعه يا لطفي..باختصار ودون ان تستخدم ايا من مصطلحات (القناعة) و (كنز) و (لا يفني).
لم يبد عليه انه فهم ما اعنيه، فاستدرك مسرعا:
أريدك ان تساعدني في تقديم اوراقي للجامعه..
- ولم ..؟
- العلم نور كما يقولون..
(لهذا تنقطع الكهرباء هذه الايام كثيرا يا لطفي..)
اقولها في سري طبعا..
واصمت بعض لحظات احدجه خلالها بنظرة فاحصة عميقه ثم اسأله: كم تأخذ في الشهر يا لطفي.؟
- خمسمائة جنيه..غير البقشيش.
اتذكر في هذه اللحظات انني لا احمل في جيبي خمسمائة مليم، واهمّ بالموافقة علي طلبه عقابا له علي موعد الزيارة الغير مناسب..
لكن قلبي لا يطاوعني..فانا لست بهذه القسوة حقا..
واري بخيالي لطفي وقد صرف (دم قلبه) من اجل اكمال التعليم ثم صرف (قلبه) نفسه بعد ذلك في محاولة البحث عن فرصة عمل تتماشي ومؤهله الذي حصل عليه...فأشعر بالشفقة علي هذه الوجه الفتيّ ان يخوض غمار تلك التجربة البشعه..
فأميل بجذعي ناحيته وانا اهمس قائلا:
هل تعلم يا لطفي ان الجامعات سوف لن تقبل المتقدمين اليها الا بعد امضائهم اقرارا يتضمن تعهدهم بعدم العمل أوالزواج بعد التخرج..؟
وهل تعلم انهم يشترطون ان تنسي كل ما تعلمته حتي يعطونك شهادة التخرج النهائيه..؟
غير مصدق يسأل: انت بتتكلم جد يا باشا..؟
- نعم.
يضع يده علي ذقنه ليغرق في تفكير عميق للحظات ثم يردد في خفوت:
ولكني كنت افكر في قيمة العلم و...
- هذه القيمة لن تؤكلك عيشا يا رجل ..ثق بي..ثم انك تقول انك تتقاضي في الشهر خمسمائة جنيه..
يستطرد في سرعه: غير البقشيش.
اضافة مهمة يا لطفي..ونصيحتي لك هي ان تقنع بهم وترض..فالقناعة كنز لا يفني..!
هل هذا رأيك حقا..؟
- نعم.
يغرق لطفي في تفكير عميق اخر..لكن هذه المرة تتهلل اساريره ويقول بمرح:
معك حق يا باشا..بدلا من ان اصرف اموالي علي الجامعه اتزوج بها افضل.
- هكذا القرارات..وتهانئي مستقبلا..
ينهض لطفي وهو يضحك ضحكة كبيرة وهو يردد كلمات الشكر لي..ويفتح باب الغرفة مستعدا للخروج، فاستوقفه قائلا:
لطفي..لا تنس ان تدعوني لزفافك..
فيشير الي عينيه وهو يقول: (من عيني يا باشا)..
ثم يغلق الباب ورائه ووقع خطواته النشيطة المرحة تتعالي بينما تغلق امي الباب ورائه وهي ترد عليه السلام..
فأغير ملابسي واجلس علي سريري مستعدا للنوم وانا افكر بأمر لطفي..
ثم اتمتم في خفوت:
ربما خدعتك يا لطفي..لكنها خدعة من النوع الذي يستحق الشكر..
لقد انجيتك من شر نفسك يا رجل..وياليتني وجدت من ينصحني بما نصحتك به منذ خمس سنوات..
فلربما كانت حياتي قد تغيرت الي الافضل...
ثم اغلق عيني التي بدأ الوسن يغشيها وانا راض عن نصيحتي للطفي..وعن أمر زيجته المستقبلية وعن..
وعن النوم الذي لا يكلفني شيئا طبعا.
                                 نورالدين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


ما رأيك فيما قرأت...؟؟؟؟؟...(((أضف تعليق)))..